---------------------- عبد المنعم سعيد يمثل اللقاء الثاني الذي يجمع الرئيس أوباما بنظيره المصري حسني مبارك، فرصة أخرى لفحص العلاقة الثنائية بين البلدين من منظور صحيح، فلفترة طويلة ركزت العلاقات الأميركية- المصرية وعلى نحو يفتقد لرؤية واضحة على أمرين اثنين: حالة السلام المصري مع إسرائيل، والتقدم المحرز في مجال الديمقراطية. ولئن كان الموضوعان معاً حاسمين بالنسبة للشرق الأوسط وينطويان على أهمية كبرى -وقد كتبتُ شخصياً لسنوات عن ضرورة توسيع السلام، كما كنتُ من المنتقدين لوتيرة الإصلاح الديمقراطي البطيء في مصر وما يرافقها من مماطلة غير مجدية- إلا أنه من جهة أخرى، يتعين على الرئيسين التركيز أيضاً على التهديدات المستجدة التي تحدق بالمنطقة والمتمثلة في الحضور المتنامي للدول الهشة التي تتداعى يوماً بعد يوم بسبب الضغوط الديموغرافية وشح الموارد والصراعات الداخلية. ومن المفهوم أن يُداخل المحللين الغربيين شكٌ غريزي وراسخ تجاه السلطات المهيمنة لنموذج الدولة كما يقدمه الشرق الأوسط، لكن هذه الرؤية باتت متجاوزة في ظل تشظي هياكل الدولة وتصدع بنياتها على نطاق واسع. ولعل أبرز مثال على ذلك وأكثره إثارة للمخاوف ما يجري حالياً في باكستان بعدما أصبحت جهود المؤسسة العسكرية الرامية إلى إعادة فرض سلطة الدولة، موضوع نقاش تناولته عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم. وبالطبع، ليست باكستان البلد الوحيد الذي يعاني تراجع تماسك الدولة بل هناك نماذج أخرى تطالعنا في اليمن والسودان ولبنان والعراق وأفغانستان وفلسطين. هذه الدول جميعها تئن تحت وطأة الانكماش الملحوظ لسلطة المؤسسات، حيث القانون لا يطبق والاقتصاد خارج نطاق التنظيم، والوظائف لا تستحدث، ناهيك عن خروج بعض مناطق التراب الوطني عن السلطة وتسلمها من قبل فاعلين لا ينتمون للدولة، فضلاً عن تراجع المؤسسات عن تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. في هذا الإطار، تبرز مصر وتتميز عن غيرها ليس فقط؛ لأنها مركز العالم العربي وقلبه النابض، وليس لأنها أكبر الدول العربية وأقدمها وأكثرها سكاناً، ولا حتى لكونها أول دولة عربية توقع اتفاقية سلام مع إسرائيل، وإحدى أهم حلفاء أميركا في المنطقة، بل تتميز مصر على وجه الخصوص؛ لأنها إحدى الدول القليلة في الشرق الأوسط التي تملك مؤسسات قوية ومتطورة قادرة على تعزيز النمو الداخلي وفي الوقت ذاته الحفاظ على دورها الاستراتيجي في المنطقة. هذه الحقيقة يمكن تلمسها من خلال جانبين، أولهما أن الدولة في مصر ظلت مستقرة دون التفريط في ضرورات التغيير، ومع أن مسيرة التغيير لم تكتمل بعد ومازال يشوبها كثير من النقص، فإن التحولات التي يعرفها المجتمع المصري لا يمكن إنكارها، فقد انتهت فكرة الحزب الوحيد الذي هيمن على الساحة السياسية لأكثر من ربع قرن، مفسحة الطريق لانتخابات رئاسية متعددة حلت مكان الاستفتاءات الرئاسية السابقة، ناهيك عن العدد الكبير من المطبوعات، 500 جريدة ومجلة ودورية، وأكثر من 400 قناة فضائية تتنافس على تغطية الأخبار ونقل الآراء الناقدة. وعلى الصعيد الاقتصادي، بذلت مصر جهوداً مهمة تجلت في احتلالها المرتبة الأولى لثلاث سنوات على التوالي في الإصلاحات الاقتصادية بالمنطقة، وزادت وتيرة الاستثمارات التي قلصت نسبة البطالة من 8.11% خلال عام 2005 إلى 6.8% في العام الماضي. ومنذ العام 2005، تجاوز الناتج الإجمالي المحلي في مصر نظيره في بعض الدول الآسيوية حديثة العهد بالتصنيع، ومن المؤكد أن مصر ستحافظ على موقعها كأحد الاقتصادات الصاعدة. أما الجانب الثاني لتميز مصر، فيبرز في حفاظها على السلام بالمنطقة في وقت تبدو فيه جميع المؤشرات والأشخاص يدفعون في اتجاه الحرب، حيث استطاعت اتفاقية السلام لعام 1979 الاستمرار والترسخ ثم التوسع لاحقاً لتشمل الأردن رغم جميع المعوقات. وفيما جلب السلام الكثير من الانتقادات لمصر من قبل بعض الأوساط العربية، ظلت مع ذلك البلد العربي الوحيد الذي يلجأ إليه جميع الأطراف بحثاً عن الإجماع الاستراتيجي والتفكير العقلاني، ففي منطقة تخترقها العديد من خطوط التماس مازالت مصر تستضيف الجماعات المختلفة لإجراء الحوار سواء تعلق الأمر بالفصائل الفلسطينية، أو الإسرائيليين، أو الفرقاء في السودان والعراق. ومع أن هذه الأطراف نادراً ما تتفق، إلا أنها جميعها تريد من مصر إيقاف الانشقاقات ومنع مزيد من التداعي والتصدع؛ لذا وعلى مدار العقود الماضية كرست مصر دورها كوسيط لا غنى عنه في عملية السلام. ويؤكد هذا كله الدور المركزي لمصر في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة لمواجهة تحديات استراتيجية تتمثل في محاولتها صياغة تسوية شاملة بين العرب وإسرائيل ووقف البرنامج النووي الإيراني، فضلاً عن ضمان استقرار العراق بعد انسحاب الجيش الأميركي. والأكثر من ذلك، يتعين على الولايات المتحدة ومصر التصدي لاحتمالات تشظي الدولة كما تلوح بعض بوادره في المنطقة، إذ لا بد للشرق الأوسط أن يتوصل إلى طريقة للتعامل مع الفوضى الناتجة عن الدول الفاشلة. وفي هذا الإطار، يتعين على البلدين وضع آليات لتشكيل تحالف إقليمي ودولي يوقف الانهيار الخطير للدول، على أن تتراوح الحلول بين السياسي والمالي والإداري، وهنا مرة أخرى تبرز مصر وتتميز ليست فقط كحليف، بل أيضاً كنموذج يحتذى به. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست ولوس أنجلوس تايمز"